لا يتميز لبنان فقط بطبيعته الخلابة ومعالمه السياحية ومواقعه الأثرية العديدة التي شهدت على حضارات متنوعة أغنته ثقافيا وفكريا، بل أيضا بثروته المعمارية وقصوره القديمة الرائعة المُنتشرة في مختلف المدن اللبنانية الغارقة بالتاريخ في كل زاوية وشارع.
قصور وأبنية تراثية عتيقة منسية لا تُعد ولا تُحصى لكل منها قصة خاصة شاهدة على تاريخ لبنان تنم عن إرث معماري قديم وقيمة تاريخية حافلة، ولكن للأسف بدأ التصدع يأكل جدران بعضها والبعض الآخر مهدد بالهدم أو التصدع وأضحى قسم كبير منها ملجأ للفقراء والنازحين. فهل يُمكن المحافظة على هذا الإرث العمراني التراثي؟ وهل من قانون يحميه؟
يُشير الدكتور حبيب صادق رئيس مؤسسة الجادرجي من أجل العمارة والمجتمع ومنسق اللقاء العمراني في المشرق العربي وأستاذ مساعد في الجامعة اللبنانية إلى ان “قضية الأبنية التراثية او النسيج العمراني والتاريخي والأثري تعتبر إحدى ثروات لبنان ولكن للأسف في الدستور اللبناني لدينا إشكالية كبيرة تتمثل في انه يُقدس الملكية الخاصة وهذا حق من حقوق المواطن اللبناني ولكن يجب الا يكون هذا الأمر على حساب الثروات الحضارية والثقافية المتمثلة بهوية البلد من خلال آثار الجماعات والشعوب والحضارات التي مرت عليه”.
وقال في حديث عبر “لبنان 24”: “أظهرت مجموعة من الدراسات الأولية ان نسبة 35 بالمئة من بنية لبنان العمرانية هي بنية تراثية على مستوى الريف والمدينة”.
هل من إحصاء لهذه الأبنية والقصور التراثية؟
يؤكد صادق انه “لا يوجد أي إحصاء فعلي دقيق للأبنية لتُراثية بل ثمة تصورات لها علاقة بالأبحاث في الجامعات او من خلال نقابة المهندسين والنشاطات التي أطلقت مثل إعلان بيروت العمراني بعد انفجار 4 آب والذي عمل على هذا الموضوع”، وقال: “في الوقت نفسه لدينا في الجامعة اللبنانية برنامج “الجامعة ومجتمعها” الذي يعمل على توثيق التراث العمراني في الريف اللبناني والتقديرات تُشير إلى انه على مساحة لبنان هناك بحدود 30 إلى 35 % بنى تراثية عمرانية منفردة أو ضمن نسيج عمراني أوضمن جماعات من الأبنية والتجمعات او مراكز المدن أو القرى القديمة إلى جانب الإرث الأثري الذي يرتدي أهمية كبرى”.
هجر المنازل الأثرية
يقول صادق: “مع نهاية القرن التاسع عشر بدأ الاهتمام بالأبنية التُراثية القديمة لكن لم يتم الأخذ بعين الاعتبار التحولات العمرانية التي حصلت واستمرت حياة الناس في الريف والمدن القديمة ضمن هذه الأنسجة التاريخية أي على سبيل المثال استمرت مدينة صيدا القديمة حتى حصول هزة أرضية عام 1956 كذلك في طرابلس وصور والمناطق الأخرى لكن عندما بدأ التحوّل الاقتصادي والاجتماعي وتوسع المدن والأرياف والتوسع العمراني بدأت عملية النزوح إلى الأماكن الحديثة والمدن المعاصرة وهذا الأمر أدى إلى إهمال هذه المنازل في ظل غياب سياسات للدولة”.
وأضاف: ” التحولات التي حدثت في المدن اللبنانية في فترة الخمسينات مع الفورة العمرانية التي كانت نتيجة تمركز الرأسمال العربي في البنوك اللبنانية والذي ساهم بشكل كبير في انتشار العمران وتوسع المدن الحديثة في بيروت او صيدا وطرابلس، أدى إلى حصول هجرة من المناطق القديمة إلى المناطق الحديثة يُضاف إلى ذلك الإهمال وعدم وجود إدارات متخصصة. فإذا تحدثنا اليوم عن مديرية الآثار فهي تركز اهتماماتها على موضوع البنية الأثرية والحفريات الأثرية وحمايتها وتوثيقها ولكن المناطق القديمة والتاريخية تتطلب وعيا اجتماعيا على مستوى المجتمع لأهميتها واهتماما رسميا من قبل الدولة”.
وشدد على ان “لبنان غني بتراثه وكان يجب إنشاء إدارة عامة لإدارة التراث العمراني التاريخي الحي الذي يتطلب حماية وصيانة ويحتاج إلى إدارة لأن هناك ناس يعيشون ضمن المدن التاريخية والأحياء التراثية وهؤلاء الناس يجب ان يتساووا مع المدينة الحديثة بالخدمات والبنية التحتية لذلك فان المدن التاريخية، و نتيجة هجرة أصحابها الأصليين، وبسبب الهجرة من الريف إلى المدن، استقطبت فقراء الريف الباحثين عن فرصة عمل في المدينة لتتحول هذه المناطق إلى نوع من أحزمة بؤس ومناطق مُهملة ونوع من الملاجئ الاجتماعية”.
وأشار صادق إلى ان “هناك مجموعة كبيرة من الأبنية التراثية القديمة التي تعرّضت للتخريب بسبب الجشع وعدم وجود سياسة وأنظمة خاصة لحماية الأنسجة العمرانية التراثية وبالتالي سعى أصحاب هذه الأملاك إلى الاستفادة من الاستثمارات الموجودة في قوانين البناء والتي تعطي إمكانيات مرتفعة وغلاء الأرض والاستثمار المرتفع مكان الأبنية القديمة ما شجع بعض أصحاب هذه الأبنية على تخريبها لكي يتم هدمها حتى ولو كانت محمية وبالتالي كان هناك عمليات تخريب مُمنهجة في الكثير من الأحيان.
واعتبر حبيب ان غياب الرؤى والسياسات إلى جانب القوانين الضعيفة أديا إلى إهمال هذه المباني إضافة إلى سياسات ممنهجة عند أصحاب هذه الممتلكات إلى تخريبها بحجة انها تُهدد السلامة العامة، وحكما أي مبنى متصدع أو مهدد بالانهيار يشكل خطرا على السلامة العامة”، مشددا على ان “الموضوع الأساسي اليوم هو الا تتحول قضية التراث العمراني إلى قضية سلامة عامة بل هي قضية ثروة وطنية وهوية واقتصاد ودور مستقبلي في مجتمعنا واقتصادنا”.
كيف يمكن المحافظة على هذا الإرث المعماري؟
يشدد صادق على “انه لا يمكن الاستمرار من دون إنشاء مديرية او هيئة عامة لإدارة التراث العمراني التاريخي الحي في لبنان قد تتبع رئاسة مجلس الوزراء او وزارة الثقافة إلى جانب المديرية العامة للآثار وتكون متخصصة ومؤلفة من معماريين ومهندسين واخصائيين تستطيع ان توثق كل الإرث العمراني الموجود وان تديره وان تتعاون مع الجامعات في لبنان لتشكيل جهاز لتوثيق مجمل التراث العمراني الحي وتصنيفه”.
واعتبر انه “يمكن أيضا تقديم حوافز لأصحاب هذه الأبنية التراثية للحفاظ عليها، على سبيل المثال من خلال الإعفاء من الضرائب وتأمين مساعدات لهم وتسهيل القروض الميّسرة”.
ولفت حبيب إلى انه “تمّ مؤخرا إنشاء مرصد القضايا العمرانية في نقابة المهندسين بالتعاون مع الجامعة اللبنانية من اهتماماته التراث العمراني على المستوى الوطني، كما ان الجامعة اللبنانية لديها مجموعة من البرامج لتوثيق التراث العمراني نسعى ان تتطور أكثر وأن تشكل نقطة انطلاق على مستوى المرصد العمراني للتعاون مع باقي الجامعات ونقابة المهندسين والوزارات المعنية وعلى رأسهم وزارة الثقافة للبدء في مشروع لتوثيق التراث العمراني التاريخي الحي”.
إذا لا بد من المُحافظة على القصور والمنازل التراثية المُنتشرة في كل المناطق اللبنانية لأنها شاهد حيّ على تاريخ لبنان وإرث معماري له قيمة تاريخية ومعنوية.
المصدر: لبنان 24