ليست المرة الأولى التي ينفذ فيها العدو الاسرائيلي عملية إنزال على الأرض اللبنانية لتحقيق أهداف أمنية أو عسكرية، بل هو سبق وقام بإنتهاكات من هذا النوع سبع مرات منذ العام 1973 وحتى العام 2006 في ظل العدوان الاسرائيلي على لبنان آنذاك، إلا أن عملية الانزال الثامنة في تاريخ الصراع اللبناني ـ الاسرائيلي والتي كان مسرحها شاطئ البترون فجر الجمعة الفائت بهدف خطف القبطان البحري عماد أمهز، جاءت مختلفة في الشكل والمضمون والرسائل السياسية والعسكرية.
في الشكل، وصلت الى شاطئ البترون قوة من الكوماندوس الاسرائيلي عند الساعة الثانية والنصف من فجر الجمعة، وإنتقلت مباشرة الى الشاليه التي يسكنها القبطان أمهز وهي تبعد نحو 50 مترا عن الشاطئ، حيث ألقت القبض عليه وإقتادته الى حيث الزوارق التي إستخدمتها، وذلك في فترة لا تتعدى الأربع دقائق، وقد كان واضحا من خلال ما أظهرته إحدى كاميرات المراقبة أن قوة الكوماندوس كانت تتجول بحرية كاملة، واللافت أنها كانت تسير في وسط الشارع من دون إتخاذ وضعيات الاستنفار والقتال، وذلك على عكس ما يُفترض أن تقوم به أية قوة كوماندوس خلال تنفيذ عمليات من هذا النوع.
في المضمون، بدا واضحا، أن العملية ليست وليدة ساعتها، بل هي مخطط لها بشكل مُحكم ومنذ فترة طويلة، وأن هذا التخطيط من المرجح أن يكون من خلال عميلين أو أكثر حرصوا على دراسة المنطقة وتقديم تقارير مفصلة الى العدو حول طبيعتها والقاطنين فيها والمسافة التي تبعد شاليه أمهز عن الشاطئ، وحول مكان الانزال، وموقع كاميرات المراقبة، وكيفية إتصالها بشبكة الانترنت لتتمكن بعد العملية من تهكيرها ومسح محتواها.
ويبدو أيضا، أن العدو الاسرائيلي لديه ثقة بالغة بعملائه الذين إستقبلوا قوة الكوماندوس التي تعرفت عليهم من خلال أجهزة خاصة كانت بحوزتهم، وأرشدوها الى كيفية تنفيذ العملية التي تمت بنجاح في غضون أربع دقائق، ونتج عنها إختطاف القبطان أمهز الذي تمت مصادرة جهاز هاتفه الخليوي من قبل قوة الكوماندوس التي أبقت على شرائح هواتف لعدد من دول العالم وباسبور لبناني وأكثر من باسبور صادر عن دولة بنما، وذلك من أجل زيادة الغموض واللغط حول هذا الاختطاف. في حين تبين أن القبطان أمهز الذي يخوض دورات تدريبية في معهد “مرساتي” للعلوم البحرية في البترون، ويعمل على سفن مدنية وتجارية بالتعاقد، يستخدم هذه الشرائح في الدول التي يُبحر إليها، كما أن الباسبورات الصادرة عن دولة بنما والتي تم تصويرها الى جانب جواز سفره اللبناني، تعود الى أن علم هذه الدولة هو الأقوى في الملاحة البحرية، وهي تعطي القبطان الذي يقود السفينة الى مرافئها جواز مرور صادر عنها يخوله الدخول إليها عبر البحر ويمكنه من تسجيل خدماته البحرية فيها.
في السياسة، حملت عملية الإنزال البحري في البترون رسائل إسرائيلية عدة، أهمها، أن العدو غير معني بالقرار 1701، وأنه لا يقيم وزنا لقوات اليونيفيل التي سبق وقصف مقراتها عند الحدود ولا للقوات الألمانية التي تراقب البحر ولا للأمم المتحدة التي أكد أن أمينها العام غوتيريتش شخص غير مرغوب به، فضلا عن رفضه المطلق للوساطة الأميركية التي يتولاها آموس هوكشتاين الذي عمل رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو على إفشال مهمته بوقف إطلاق النار.
كما جاءت العملية لتترجم الرؤية الاسرائيلية لمرحلة ما بعد الحرب، ولتحاكي شروط نتنياهو الذي يسعى لتمكين إسرائيل من التدخل في أي مكان على الأراضي اللبنانية تشعر أن فيه تهديدا لكيانها أو تواجدا للمقاومة، بما يفرض وصاية على شكل إحتلال جديد سبق للبنان أن رفضه وهو اليوم يقاوم من أجل التصدي له، في ظل صمت مطبق لـ”مدّعي السيادة” الذين بلعوا ألسنتهم أمام هذا الانتهاك الصارخ للسيادة وللأمن القومي اللبناني.
في العسكر، فإن ثلاثين يوما مروا ولم يتمكن فيه العدو المدجج بمئة ألف جندي موزعين على خمسة فرق ولواء نخبة من الدخول الى القرى والبلدات الجنوبية وإحتلالها، وذلك بفعل تصدي المقاومين الذين يذودون عن الأرض ويكبدون الاحتلال الخسائر الكبرى في الضباط والجنود والدبابات والآليات، في حين نفذ العدو في غضون أربع دقائق دخولا الى البترون وأتمّ عمليته الأمنية بنجاح من دون أن يضطر لإطلاق رصاصة واحدة ومن دون أن يتعرض لإطلاق رصاصة واحدة. لاشك في أن الاسرائيلي لم يكن ليدخل المياه الاقليمية والوصول الى الشاطئ اللبناني من دون علم مسبق لقوات اليونيفيل أو للقوات الألمانية المولجة بمراقبة الشاطئ، وهو في حال عمل على تشويش الرادارات العائدة لهذه القوات، فكان يجب أن يعطي ذلك مؤشرا على أن هناك عملا أمنيا غير طبيعي يجري في البحر، وكان يُفترض في أسوأ الأحوال إبلاغ الجيش اللبناني الذي لا يمتلك رادارات متطورة قادرة على رصد مثل تلك الزوارق الاسرائيلية.
كل ذلك، يفتح الباب على مصراعية أمام جملة من التساؤلات، حول كيف للجيش أن يقوم بواجب حماية لبنان إذا لم يصر الى تزويده بكل الأسلحة والمعدات والتجهيزات والتقنيات لمواجهة هذا العدو الغاشم؟ وكيف يمكن للقرارات الدولية التي يطالب بها “الحريصون على السيادة” أن تحمي لبنان في ظل تواطؤ القوات الدولية مع إسرائيل على لبنان؟، وماذا لو لم يكن هناك مقاومة تتصدى وتواجه وتحافظ على الأرض؟!.
المصدر: سفير الشمال