غداة السابع من تشرين الأول، فُتحت جبهة الجنوب، وفق معادلة إسناد غزة، تصاعدت حدّة المواجهات شيئًا فشيًا، واتسعت رقعة الحرب كمًّا ونوعًا، وصولًا إلى تخطّي العدو الإسرائيلي كلّ الخطوط. أشهر الصراع العشرة ألقت بتبعاتها السلبيّة على اقتصاد لبنان، وكبّدت البلد خسائر مباشرة وغير مباشرة. رغم ذلك أثبت “دولار بيروت” مناعة لافتة، وحافظ على استقراره، دون أن تنال حدّة المواجهات من صموده. ولكن اليوم يرتفع منسوب القلق من تفلّت الدولار او تقلبه، خصوصًا أنّ لبنان لم يتعافَ من أزمته الاقتصادية، كما أنّ أزمته السياسية تزداد تعقيدًا. فهل سيبقى سعر الصرف على ثباته أم سيعاود تقلّباته السابقة؟ وماذا عن الخسائر الاقتصادية للحرب وكيف سيتمكّن لبنان من تجاوزها؟
أسباب صمود الدولار
عانى البلد منذ تشرين 2019، من انهيار الليرة، وكان سعر الصرف يحلّق بالأيام القليلة وبالساعات، مع كلّ معطى أقلّ سوءًا بكثير من السيناريو الأمني والعسكري السائد منذ تشرين الأول الماضي، حتّى بلغ ذروة غير مسبوقة في آذار 2023 بتخطّيه عتبة الـ 140 ألف ليرة. بعدها شهد سعر الصرف ثباتًا دون الـ 90 ألف ليرة منذ حوالي سنة ونصف السنة ، ولا زال. عوامل عديدة تضافرت وأرست الاستقرار النقدي النسبي، وفق قراءة الخبير المالي والاقتصادي وعضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الدكتور أنيس أبو دياب في حديثه لـ “لبنان 24” أبرزها رفع الدعم عن بعض السلع، تراجع إنفاق الدولة، وقرار حاكم مصرف لبنان بالإنابة الدكتور وسيم منصوري عدم تمويل الدولة من دون إصدار قانون بذلك، بالتزامن مع قرار سياسي أمني كبير بوضع حدّ لكافة أنواع المضاربة على الليرة، ومنذ حينه لم نعد نشهد عمليات تبادل كبيرة لدى الصيارفة وكذلك غاب الصرّافون غير الشرعيين. وكان لنجاح مصرف لبنان في تقليص حجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية في السوق دور في لجم الدولار، حيث تراجعت الكتلة النقدية من ما يقارب 90 ألف مليار إلى 61 ألف و500 مليار، أي حوالي الثلث، يما يوازي 670 مليون دولار فقط لا غير.ومنذ نهاية شهر تموز 2023 لغاية حزيران الماضي، تمكّن مصرف لبنان من رفع احتياطه بالعملات الأجنبية بقيمة مليار و120 مليون دولار، وباتت لديه قدرة بالعملة الأجنبية بما يوزاي ضعف الكتلة النقدية بالليرة، ما يتيح له المحافظة على ثبات الدولار. بالمقابل هناك طلب على الليرة، ناتج عن رفع الرسوم الجمركية والضرائب في موازنة 2024 وإلزام التجار بدفعها بالليرة اللبنانية نقدًا، أدّى ذلك إلى تحقيق توازن بين الطلب والعرض بالنسبة لليرة بحدود 60 ألف مليار، وهو مبلغ كافٍ لحجم الاقتصاد اللبناني المتواضع، من دون أن يكون هناك تضخّم بسعر الصرف، وفق أبو دياب.
توازن بين النفقات والإيرادات
دولرة الاقتصاد من العوامل التي ساهمت في تحقيق ثبات في سعر الصرف، وكذلك التوازن الذي تحقق على صعيد النفقات والإيرادات في الدولة “بحسب موازنة 2024 يبلغ مجموع إيرادات الدولة بحدود 26 ألف مليار شهريًّا، وهذا الرقم تحقّق فعليّا منذ بداية السنة إلى يومنا، بالمقابل لم يتجاوز إنفاق الدولة 21 ألف مليار، وهذا ما يثبت أنّ الدولة باتت تنفق من إيراداتها، ولم تعد مضطرة لطلب تمويل إضافي من المركزي. ناهيك عن حركة الوافدين لغاية منتصف تموز الماضي، والتي سجّلت نسبة مقبولة”.
تفلّت الدولار إذا..
كل هذه العوامل مجتمعة أدّت إلى عدم رفع حجم الكتلة النقدية بالليرة والحفاظ على سعر الصرف. ولكن ثبات الدولار ليس حتميًّا يقول أبو دياب “أي تغيّر في العوامل المذكورة يضرب الاستقرار في سعر الصرف، كزيادة إنفاق الدولة نتيجة ظروف الحرب، حصول خضّات أمنيّة، أو في حال اتساع دائرة الحرب إلى حدود تنتج تعطّلًا في إيرادات الدولة في الرسوم الجمركية، والتي تشكل 30% من الإيرادات، فضلًا عن انخفاض الإيرادات في حال تراجع عمل دوائر الدولة لاسيما وزارة المالية، وهذا السيناريو يفرض تحدّيات لتأمين النفقات، ويضغط على المركزي ليرفع الكتلة النقدية، فيبدأ الدولار بالتفلّت من جديد”.
الزراعة والسياحة والنزوح في قائمة الخسائر
تعمل الحكومة جاهدة، ضمن خطّة الطوارىء التي وضعتها لتقليص حجم التبعات الاقتصادية السلبيّة للحرب المستعرة في البلدات الجنوبيّة، عبر التخفيف من وطأة معاناة النازحين من الجنوب، وضمان الأمن الغذائي والصحي. وفق الدولية للمعلومات، عشرة آلاف وحدة سكنية تضررت بين دمار كامل وجزئي، تمّ تلف ملايين الأمتار المربعة من الأراضي الزراعية، فضلًا عن خسارة موسمي التبغ والزيتون ومواسم عديدة، وانعكاس التلوث البيئي الفسفوري على المزورعات بأثر قريب أو متوسط الأمد، وتعطّل الدورة الاقتصادية في الجنوب بشكل كامل (تشكل حوالي 20% من الاقتصاد اللبناني). ونزوح مئة ألف جنوبي قبل 31 تموز الماضي، يضاف إليه النزوح مؤخّرًا من الضاحية الجنوبية للعاصمة. وهناك تكاليف ستتكبّدها الدولة، وقد رصدت مبلغًا لذلك في إطار خطة الطوارىء، هو زهيد قياسًا بالخسائر، ولكنه المتاح وفق الامكانيات، يلفت أبو دياب.
خسائر الحرب: 3 مليار مباشرة و10 مليار غير مباشرة
لا أرقام دقيقة حول الخسائر. غير المباشرة منها، تتجاوز العشرة مليار دولار، والخسائر المباشرة بلغت 3 مليار دولار وفق أبو دياب “لناحية تدمير المباني والبنى التحتيّة، وخسائر القطاع السياحي الذي انطلق باكرا في حزيران تزامنًا مع عيد الأضحى، وانعكس نشاطًا سياحيًّا وتجاريًّا رغم الحرب، حيث وصل عدد الوافدين إلى 14 ألف يوميًّا في حزيران، وشهدت حركة المطاعم إقبالًا وتمّ افتتاح مطاعم جديدة. لكن ما لبث أن تعطّل الموسم، وتراجع رواد المطاعم حوالي 20%، وقد سجّلت حركة إيجار السيارات فقط 40% قياسًا مع العام الماضي، والإشغال الفندقي ما بين 5 و 10% في بيروت، في مقابل إشغال جيد في بيوت الضيافة في المناطق، وبالاجمال سجّل القطاع السياحي خسارة بنسبة 20% مقارنةً مع العام الماضي”.
التعافي ممكن بفترة وجيزة
رغم تزامن الحرب مع الأزمة الاقتصاديّة والماليّة في لبنان في عامها الخامس، ينظر أبو دياب بتفاؤل حيال المدى الزمني للتعافي من جديد “يُحكى عن حاجة لبنان إلى عقد أو أكثر لإعادة النهوض من جديد، ولكن في لبنان هناك وقائع ومقاربات غير مقروءة في المعطيات العلميّة في علم الاقتصاد، تتعلق بسلوك الشعب اللبناني حيال الأزمات، بدليل أنّ الناس تعاود نشاطها وترفع من حجم استهلاكها خلال ساعات قليلة تلي أيّ انفراج، كما أنّ 33% من حجم الناتج المحلي يتأتّى من تحويلات المغتربين، وأنا على يقين أنّه في حال نضجت التسوية في المدى القريب، وتمكّن لبنان من انتخاب رئيس وتنفيذ بعض الإصلاحات، سيشهد البلد فورة اقتصادية في عيدي الميلاد ورأس السنة”.