أدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة، في مقر المجلس، بعد أن ألقى خطبة الجمعة التي جاء فيها:
” كيف نترجم الحفاظ على مشروع الأمة الذي هو حفظ الرسالة بعيداً عن مشروع السلطة؟ وهل هذا الفصل بين مشروع الأمة بالحفاظ على أهداف الرسالة أمر واقعي؟ وكيف يمكن الحفاظ على الرسالة من دون سلطة وحكم يتبنى أهدافها ويعمل على تحقيقها؟ هذا سؤال مشروع يحتاج إلى جواب حتى لا يبقى مجرد مشروع نظري غير قابل للتطبيق.
أولا: إنّ الدولة ليست جزءاً من الرسالة ومشروع الإسلام، وإنما هي ضرورة لحماية الانتظام العام ومنع الفوضى في المجتمع، ومن هنا قال أمير المؤمنين (ع) : لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر، ويُبلِغُ الله فيها الأجل، ويُجمع به الفيء، ويُقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر ويستراح من فاجر”. فهي مجرد أداة لتنفيذ المشروع الالهي
ثانياً: إنّ التجربة التاريخية لأئمة أهل البيت (ع) خيرُ جوابٍ على هذا السؤال، بمعنى أنهم تبنوا تأهيل المجتمع ودفعه لينشئ مؤسساته الخاصة بعيداً عن الارتباط بمؤسسات السلطة وهو ما نسمّيه اليوم بالمؤسسات الأهلية ثقافية وتعليمية وتربوية واجتماعية واقتصادية، بحيث أن السلطة إذا أرادت أن تقف في وجهها تقف في وجه المجتمع، وبهذا يخلق عائقاً كبيراً أمام نفوذ السلطة وهو ما حصل فعلاً فكلما حاولت السلطة أن تتجاوز حدودها وجدت في المجتمع شرائح تقف في وجهها وتتصادم معها وتسقطها أو تسقط عنها الشرعية، طبعاً السلطة تنبّهت لهذه الخطة التي رسمها أهل البيت وحاولت إفسادها وإنشاء مؤسسات مقابلة وحدث صراع فكري حاد بين المؤسستين، مؤسسة السلطة ومؤسسة المجتمع، ولكن السلطة حين وصلت الجرأة بها في تحدي الرسالة الى درجة الخطر حين قررت إلغاء هذا الفصل للسلطة وأن يكون للمجتمع وقواه الاهلية مهمة حفظ الرسالة لتحقيق أهدافها الذي بدأ التمهيد له شيئاً فشيئاً بملاحقة أحرارها وقتلهم أو نفيهم أو سجنهم إلى أن بلغ السيل الزبى بتسليط يزيد الفاسق الفاجر قاتل النفس المحترمة حدث الاصطدام العنيف بينها وبين الامة ممثلةً بالإمام الحسين (ع)، الذي أراد له أن يحدث فيها صدمة هائلة ليعيد لها وعيها وثقتها بنفسها وتصويب بوصلتها وإعادتها الى لعب دورها مما منع السلطة وجعلها عاجزةً عن حسم الصراع لصالحها، وأن تفرض مدرستها على المجتمع بل استمر الصراع قائماً بينهما، فانتشار الإسلام في البلاد المفتوحة خارج الجزيرة العربية لم يكن من إنجازات السلطة وإنما كان إنجازاً للمجتمع الإسلامي ومؤسساته الاهلية، بل يُعزى انتشار الإسلام إلى البلاد التي لم تكن على تماس مع البلدان الاسلامية كأندونيسيا وماليزيا إلى نشاط التجار المسلمين الذين وفدوا إلى هذه البلدان للتجارة، الذين حملوا معهم إيمانهم وتعرَّف أبناء هذه البلدان إلى الإسلام عن طريقهم ومن حسن سلوكهم وأمانتهم وصدقهم، وهكذا في المناطق المفتوحة حيث لم تكن السلطة مهتمة بنشر الإسلام وإنما ما يناسبها من ثقافة التحريف، وبما يناسبها من ثقافة الاستسلام والخنوع للحاكم.
والدليل على ذلك أن سقوط السلطة أمام القوى المعادية لم يتسبّب بسقوط الإسلام كما لم يجعله ينحسر أو يمنعه من الانتشار خارج بلاد المسلمين، بل على العكس ظل الإسلام هو الدافع الاول للتحرّر ومقاومة الاستعمار والمواجهة مع محاولات الاستعمار لزرع الثقافة البديلة التي على الرغم من المحاولات الحثيثة التي بذلها وسخَّر لها كل ما استطاع إعلامياً ومادياً ومؤسسات ثقافية وتعليمية وما أعدّه من برامج، ولكنه مع ذلك فشل فشلاً ذريعاً في أن يُحقّق ما أراده، فقد استطاعت الأمة من كسر إرادة الاستعمار المباشر وتحرير بلادها من الاستعمار بالاستناد إلى الثقافة الإسلامية، ومراجعة سريعة الى تاريخ الثورات في البلدان العربية والاسلامية تؤكّد هذه الحقيقة وما كان للعلماء المسلمين والمراكز الاسلامية من جامعة القرويين إلى الزيتونة إلى الأزهر إلى النجف الاشرف الى قم المقدسة من دور أساسي في مواجهة الاستعمار وإثارة الشعور الديني والوصول إلى التحرّر والاستقلال وبعد الاستقلال من الغزو الثقافي الالحادي بشقّيه الغربي والشرقي الرأسمالي والشيوعي الذي لم يصمد أمام المقاومة الفكرية والثقافية التي أنتجتها المراكز الدينية العلمية وعلماء ومفكرو الأمة وخصوصاً ما أنتجه الامام الفذّ السيد الشهيد المرجع الإسلامي الكبير محمد باقر الصدر وخصوصاً كتابي فلسفتنا واقتصادنا، الذي قضى على الفكر الإلحادي الشيوعي والرأسمالي و الذي هشَّم المدّ الإلحادي في العالمين العربي والإسلامي وغيره من تلامذة المرجع الكبير وزعيم الحوزة العلمية في النجف الاشرف الامام السيد محسن الحكيم الذي قضى على الشيوعية في العراق بفتوى واحدة مشهورة (الشيوعية كفر وإلحاد).
كل ذلك لم تصنعه الدول الحاكمة في العالم العربي والإسلامي، وإنما صنعته الأمة بمؤسساتها العلمية والفكرية وما أنتجته من رجالات العلم والفكر والتي كان من أهم انجازاتها الثورة الاسلامية في ايران بقيادة الامام الخميني والمقاومة في لبنان على يد الامام السيد موسى الصدر التي نمت وكَبُرت وحقّقت انتصارها الاول في تحرير جنوب لبنان، حيث هُزمت الدول والجيوش العربية أمام العدو الاسرائيلي الذي احتل مزيداً من الأرض إلا في حرب تشرين التي قاتل فيها الجندي المصري والسوري، ولم يكتمل الانتصار فيها بسبب مراهنة الرئيس انور السادات على الولايات المتحدة الأمريكية ومشاريع السلام الخائبة .
ولكن فشل الدول العربية لم ينسحب على شعوبها التي استندت إلى نجاح الثورة الاسلامية في ايران وانتصار المقاومة في لبنان عام ٢٠٠٦ التي أعطت مقاومتها دفعاً معنوياً كبيراً واستعداداً لبذل التضحيات العظيمة والغالية التي يُقدّمها الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية الذي وضع العدو الاسرائيلي اليوم في مأزق ليس قادراً على الخروج منه، فهو بين قبول الهزيمة ووقف القتال ما يعني نهاية وجوده، فالهزيمة الاولى هي الأخيرة وبين الاستمرار فيه والاضطرار الى توسعة الحرب وهو استنزاف لقواته العسكرية وموارده الاقتصادية وتعميق لازمته الوجودية.
هنا برز الفرق بين دور الأمة ودور السلطة، فالسلطة لا مانع لديها من المساومة على الرسالة وقد ساومت على أهم قضية رسالة حين تخلّت عنها وأقرّت للعدو بالاحتلال، بل تآمرت عليها وذهبت إلى التطبيع مع العدو، وبين الأمة التي تمسَّكت بالرسالة ورفضت الخضوع للظلم والاقرار للظالم والخضوع له ووقفت باقتدار أمام العدو، فالرسالة لا يمكن المساومة عليها مهما كانت الظروف لأنّ الحقّ سينتصر مهما طال الزمن.”
واشار الى ان “فلسطين اليوم تُمثّل رسالة الأمة وتُعبّر عن قيمها الحضارية، وهي حين تدافع عنها تدافع عن وجودها وعن قيمها ورسالتها وحين تنتصر لها تنتصر لقيمها الاسلامية بل للقيم الإنسانية.”
وقال: “إنّ المقاومة اليوم تُمثّل مشروع الأمة ورسالتها وحين تثبت الانتصار الذي حقَّقه طوفان الاقصى في السابع من تشرين في العام الماضي ستقنع الفئة التي تقف في وجه المقاومة أن الانتصار لم يكن انتصاراً لمذهب أو إقليم كما حدث بعد انتصار أيار عام ٢٠٠٠ وانتصار ٢٠٠٦، بل انتصار للبنان كما لفلسطين، ولن يُستَغَل لتحصيل مكاسب مذهبية في الداخل اللبناني، ولن يتغيَّر خطاب الانتصار عن خطاب انتصار عام الفين، فتأخير التسوية اليوم والدخول في الحوار لن يعكس النتائج التي حققتها المقاومة ولن يلغي الانتصار”.
اضاف: “إنّ اللغة الهادئة التي تستخدمها المقاومة مع القوى المناوئة لها في الداخل اللبناني والعربي والاسلوب الذي استخدمته في التعامل مع الحرب التي يشنها العدو على لبنان كافٍ ليطمئن اللبنانيين جميعاً على حرص المقاومة على مراعاة المصلحة اللبنانية في الوقت الذي تقوم به من مواجهة العدو على الحدود الجنوبية، وما نراه من ممارسة اللبنانيين لحياتهم العادية في بقية المناطق يعني أن الاكثرية من اللبنانيين لم يتأثروا بالدعاية المضادة التي فشلت ليس فقط في تحريض بيئة المقاومة عليها، بل في تحريض الشعب اللبناني ضدها، وهذه القناعة ستتعزَّز كلما ظهر العجز الاسرائيلي أكثر”.
وقال: يحضرني أبيات شعر كتبها نزار قباني تحيةً الى الجنوب اللبناني بعد الحرب الإسرائيلية “عناقيد الغضب” ضد الجنوب اللبناني في عام ١٩٩٦ الذي توفي في مثل هذا اليوم من عام ١٩٩٨ ويقول فيها: سيذكر التاريخ يوماً قرية صغيرةً.. بين قرى الجنوب تدعى معركة. قد دافعت بصدرها..عن شرف الأرض وعن كرامة العروبة…من بحر صيدا يبدأ السؤال..من بحرها يخرج آل البيت كل ليلة كأنهم أشجار برتقال..من بحر صور يطلع الخنجر والوردة والموال.. ويطلع الأبطال..”.
اضاف: “أننا بتنا في عصر آخر هو نهاية العصر الاسرائيلي الذي ستنتهي معه كل ادواته الارهابية التي استهدفت بإرهابها قبل أيام أمن سلطنة عمان الشقيقة حيث ارتفع بنتيجتها عدد من الشهداء وأُصيب عدد آخر من مواطنيها الاعزاء في مسجد الوادي الكبير، وإنّنا إذ نُعبّر عن إدانتنا لهذا العمل الارهابي نتوجه لصاحب السمو سلطان عمان الشقيقة ومواطنيها الأعزاء ببالغ المواساة سائلين المولى أن يحفظ هذا البلد عزيزاً آمناً وأن يرحم الشهداء ويَمُنَّ على الجرحى بالشفاء العاجل”.