مع إعلان حماس موافقتها على المقترح “المصري-القطري” الخاص باتفاق وقف إطلاق النار في غزة، تكون الحركة قد توجت إستراتيجيتها التفاوضية بنجاحها في احتواء أهداف الحرب الإسرائيلية الشرسة ضد قطاع غزة وحوّلت اتجاه الضغط الدولي والإقليمي إلى حكومة الاحتلال، وحافظت على أوراق قوتها العسكرية والسياسية والتفاوضية.
كما تمكنت الحركة بهذا القرار من إلقاء الكرة في ملعب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته المتطرفة ووضعته تحت ضغط هائل، في مشهد كان يصعب تصوره في بداية الحرب.
أول التحركات في مسار التفاوض تمثل في اعتماد الوسطاء لدى الجانبين، فمنذ الأيام الأولى للحرب، سعت عديد من الأطراف الدولية والإقليمية لتقديم نفسها وسيطا في حرب هي الأشد في تاريخ القضية الفلسطينية.
ووضعت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن نفسها في موقع الإدارة الشاملة للتصعيد وضبط أدوار الأطراف، في محاولة لتصميم مسار تفاوضي يخدم توجهاتها في الحسم ضد حماس وتقديم الدعم اللازم لإسرائيل لضمان تماسكها عقب انتكاسة تشرين الأول.
إلا أن إدارة بايدن، نظرا لانحيازها المطلق لإسرائيل واقترابها غير المسبوق من المجهود العسكري والاستخباري من الحرب ووقوع عدد من مواطنيها في الأسر لدى المقاومة في غزة، وجدت نفسها طرفا في الصراع وفي المفاوضات أكثر من كونها راعية لها.
وقد أسفر الاتفاق الأول بين الجانبين عن صفقة محدودة لتبادل الأسرى، كما سمحت بدخول عدد أكبر من القوافل الإنسانية والمساعدات الإغاثية، ومن بينها الوقود المخصص للاحتياجات الإنسانية.
رسمت هذه الصفقة معالم الاتجاهات الرئيسية للجانبين، إذ أظهرت إستراتيجية حكومة نتنياهو التفاوضية التي تقوم على سعيها على الإفراج عن أسراها لدى المقاومة في غزة مقابل أيام محددة من الهدوء وكميات محدودة من المساعدات.
وتهدف تلك الإستراتيجية إلى سحب ورقة القوة الأساسية من يد المقاومة، ومواصلة حربها على القطاع حتى تحقيق أهدافها المعلنة، وتفسر على أنها موقف واضح برفض وقف إطلاق النار والانسحاب من قطاع غزة ومواصلة سياسة التجويع بهدف تهجير المواطنين الفلسطينيين من غزة.
في المقابل، أربك موقف حركة حماس الحسابات الإسرائيلية والأميركية، من خلال وقف مسار التفاوض حينها بعد فشل الوساطات في التوصل إلى اتفاق شامل يوقف الحرب، كما رسم الطريق أمام مسار تفاوضي جديد يمكن القول إن حماس وضعت قواعده الأساسية وحددت أهدافه وأوقفت به إستراتيجية حكومة نتنياهو التفاوضية.
ويمكن رصد التحول في اتجاه تصاعد الضغوط على حكومة نتنياهو منذ بدء مسار باريس التفاوضي، إذ تزامن ذلك مع عدة عوامل أسهمت في تعزيز موقف حماس وتراجع موقف حكومة نتنياهو التفاوضي.
وأبرز تلك العوامل هي تراجع تأثير المجهود الحربي العسكري الإسرائيلي بعد انسحاب الجيش من معظم المدن في قطاع غزة واقتصار وجوده على المناطق الحدودية ومحور نتساريم وسط القطاع، الذي يتعرض لعمليات دقيقة من المقاومة أوقعت عددا من القتلى والجرحى في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي، مما خفف الضغط على المقاومة والحاضنة الشعبية لها بشكل كبير.
كما حاول نتنياهو توظيف “سياسة التجويع” من أجل الضغط على المفاوض الفلسطيني والتأثير على الحاضنة الشعبية، إلا أن تداعيات هذه السياسة الإنسانية على الموقف الأميركي والغربي والعالمي أفقدت نتنياهو هذه الورقة، بل وأدت إلى تأثير معاكس، حيث جلبت ضغوطا دولية رسمية وشعبية على حكومة الاحتلال وإدارة بايدن دفعت الأخيرة لإرغام حكومة نتنياهو لإدخال المساعدات إلى قطاع غزة، خاصة مدن شمال القطاع.
كذلك، تعمقت الأزمة بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو خلال أشهر الحرب، إذ بدا أن سلوك نتنياهو في مواجهة المطالب الأميركية والضغوط باتجاه اتفاق وقف إطلاق النار كانت تستهدف التأثير على إدارة بايدن وفرصها الانتخابية.
وأدت مماطلة نتنياهو في عديد من الملفات إلى تصاعد حجم الضغوط التي تواجها إدارة بايدن على المستوى الداخلي، خاصة في أروقة الحزب الديمقراطي. ومع اندلاع حراك الجامعات، شعرت إدارة بايدن أن قدرتها على السيطرة على تداعيات الحرب في غزة وتأثيرها على فرصه الانتخابية بدأت تتراجع بشكل كبير.
حاول نتنياهو توظيف التهديد باجتياح رفح كأداة للضغط على المفاوض الفلسطيني، إلا أن القناعة الأميركية بأن العملية العسكرية في رفح لن تسهم في تحقيق أهداف الحرب المعلنة وستجلب لها مزيدا من الإحراج والضرر على المستوى الداخلي والخارجي، أفقد نتنياهو هذه الورقة.
في استقراء الإستراتيجية التفاوضية لدى الأطراف على مستوى الأهداف ومنهجية التفاوض، نجد أن حكومة نتنياهو قد دخلت المرحلة الراهنة من التفاوض وهي تبني مسارها التفاوضي على جملة من الرهانات وأوراق التفاوض التي لم تعد ذات تأثير كبير على الطرف الفلسطيني.
وعليه، فإن نتنياهو يخسر أوراقه التفاوضية مع مرور الوقت، ويستجلب بدلا منها ضغوطا أميركية ودولية عليه، وباتت أوراقه مكشوفة ويتراجع تأثيرها بينما أظهر أداء المقاومة العسكري والتفاوض استقرارا على مستوى الأهداف وإستراتيجية التفاوض.
المصدر: الجزيرة