لتاريخ ٢٦ نيسان في طرابلس نكهة خاصة، ففي مثل هذا اليوم تحررت المدينة من الإفرنج الصليبيين في العام 1289، على يد المنصور قلاوون بعد معركة مشهودة إستمرت 33 يوما، حاصر خلالها السلطان المملوكي الصليبيين داخل المدينة واجبرهم على الهروب منها عبر السفن الحربية الى قبرص ومنها الى اوروبا.
قبل 735 عاما، دخل السلطان قلاوون طرابلس فاتحا، وهدم المدينة القديمة في الميناء، ونقلها الى الداخل بمسافة 3 كلم، معلنا ولادة طرابلس المملوكية التي ما تزال قائمة حتى اليوم، وهي تشكل متحفا حيا بنسيجها العمراني المتكامل المتمثل بالمساجد والخانات والحمامات والزوايا والقلعة والابراج والعقود الحجرية والأبنية السكنية المتداخلة والمحلات التجارية.
حافظت طرابلس القديمة على طابعها المملوكي بكل تفاصيله، حتى الخمسينيات من القرن الماضي، حيث أدى طوفان نهر أبو علي الى هدم بعض المعالم الأثرية مثل “خان المنزل” و”جسر اللحامين” وبعض الابنية السكنية الاثرية، إلا أن المشاريع التي نفذت إثر الطوفان من دون دراسات فنية، أطاحت بمحلة السويقة وهي أول محلة أسسها المماليك، وبجزء كبير من قلب المدينة القديمة عبر إنشاء مجرى النهر الباطوني الذي جاء على حساب أكثر من ألفي مبنى ومحل أثري من تلك الحقبة التاريخية، فضلا عن شق الطرقات التي تلت ذلك في المدينة الأثرية لا سيما في الاسواق لتسهيل حركة المرور من جهة، ولتتمكن الدولة من قمع أي ثورة شعبية او تمرد ممكن أن يحصل في هذه المناطق المغلقة على بعضها البعض من جهة ثانية.
في عهد رئيس البلدية الراحل العميد سمير شعراني قدم المؤرخ الدكتورعمر تدمري دراسة شرح فيها أهمية يوم تحرير طرابلس، مشيرا الى أن لكل مدينة تاريخية عريقة يوم يُحتفل فيه لمناسبة تحريرها او تأسيسها، وتعتبر طرابلس من اهم هذه المدن، مقترحا تخصيص يوم 26 نيسان من كل عام للاحتفال بهذه المناسبة، وفتح كل آثار المدينة مجانا أمام المواطنين وتعطيل المدارس والمؤسسات والدوائر البلدية وإقامة المهرجانات التراثية والمسابقات العلمية والامسيات، وذلك تأكيدا على أهمية هذا اليوم في تاريخ طرابلس.
وافق المجلس البلدي في حينها على هذا الاقتراح، وباشرت لجنة الآثار والتراث فيه التحضير لهذه المناسبة، فكانت المسيرة المملوكية الأولى في المدينة التي جسدت نزول السلطان المملوكي من القلعة ومعه المشايخ والقادة العسكرين وكبار الموظفين لتفقد أحوال الناس.
ومنذ ذلك الوقت تحرص البلدية في كل عام على إحياء يوم تحرير طرابلس، عبر إقامة الاحتفالات، وفتح أبواب القلعه مجانا أمام الزوار.
تقول المعلومات التاريخية: إن طرابلس تأسست عبر التاريخ مرتين، المرة الأولى في العصر الفينيقي وكان مركزها الميناء، والمرة الثانية وهي القائمة حاليا في عصر المماليك على يد المنصور قلاوون الذي أمر بهدم المدينة القديمة المتبقية في الميناء، ونقلها الى الداخل بعمق 3 كلم، حتى تكون بعيدة عن هجمات الصليبيين والقراصنة المتكررة على الساحل.
وبذلك تأسست طرابلس حيث بني الجامع المنصوري الكبير الذي تفرعت من حوله الأسواق والمباني السكنية وتوزعت بعد ذلك المساجد والحمامات والخانات على إمتداد المدينة وعلى إمتداد النهر.
قصة التحرير
تضيف المعلومات التاريخية: كانت طرابلس عاصمة للمسلمين، وأنشئ فيها في عهد بني عمار مكتبة دار العلم التي عرفت عبر التاريخ، وضمت 3 ملايين كتاب ومخطوطة، وقد جاء الافرنج مع الحملات الصليبية فاحتلوا كل الساحل الشامي، وأحرقوا هذه المكتبة وإحتلوا طرابلس التي بقيت اكثر من مئة عام تحت سيطرتهم وأصبحت مركزا لـ ″الكونتية الصليبية″ في الشرق، وإستعصت على الظاهر بيبرس وعلى صلاح الدين الأيوبي، وغيرهم من القادة المسلمين حتى وصل المنصور قلاوون الذي إستطاع أن يحررها.
كانت طرابلس آخر مدينة تتحرر على الساحل الشامي، بعد أن حرر صلاح الدين الأيوبي القدس، وقد هاجمها المنصور قلاوون وحاصرها لمدة 33 يوما، ونصب الخيم في التلة المشرفة على المدينة، كما نصب قبته السلطانية، ومن وقتها أطلق على تلك التلة إسم قبة النصر، حتى تمكن جنوده من فتح ثغرة في السور والدخول الى المدينة، وحاصروا الصليبيين داخل المدينة الى أن فرّوا عبر البحر هربا بالبواخر نحو قبرص ومنها الى أوروبا.
ويذكر المؤرخون أن معارك ضارية جرت وسط البحر في المسافة الواقعة بين شاطئ الميناء وجزيرة البقر، وان لون البحر أصبح أحمرا من كثرة الدماء التي سالت من الجنود الصليبيين.
خضعت طرابلس بعد ذلك للمنصور قلاوون الذي أشار عليه قادته العسكريين أن يهدم الميناء وأن ينقل الحجارة الى الداخل بعمق 3 كلم، ليبني مدينة جديدة منظمة، تقع تحت سفح القلعة وتكون بعيدة عن الشاطئ لحماية المدينة من الهجمات المعادية.
واول ما تأسس في المدينة هو الجامع المنصوري الكبير الذي بناه ولدا المنصور قلاوون، ناصر والأشرف خليل، ومن ثم اعيد بناء القلعة وتحصينها. وفي عهد اول نائب للسلطنة في طرابلس أسندمر الكرجي أسست محلة السويقة، وسميت بهذا الاسم لأنها كانت تضم سوقا صغيرا وهو أول سوق في المدينة، ومن الطبيعي أن تكون نواة المدينة على ضفاف النهر، شأنها في ذلك شأن كل مدن العالم للاستفادة من المياه.
كما تم تأسيس سبعة أبراج على ساحل طرابلس لمراقبة وحماية الشاطئ، بقي منهم برج ″براسباي″ المعروف باسم ″السباع″، وكان في فترة قريبة يوجد برج رأس النهر وهو عند مصب نهر أبو علي، وقد تحول في ما بعد الى جامع، أما باقي الأبراج فقد إختفت كليا.
لا تزال طرابلس على طابعها المملوكي، بأكبر عدد من المعالم الأثرية، لتصنّف المدينة المملوكية الثانية بعد القاهرة، وهي تعد المدينة الأغنى على الساحل الشرقي للبحر المتوسط من حيث عدد معالمها الأثرية، لكن ذلك يحتاج الى خطة وطنية سياحية ـ ثقافية تستطيع لفت الأنظار الى ما تختزنه الفيحاء من كنوز أثرية، ولعل إعلان طرابلس عاصمة للثقافة العربية قد يساهم في العام 2024 في إبراز كل معالم المدينة التي كانت ولا تزال تشكل عامل جذب لكل أبناء المناطق اللبنانية.
المصدر: سفير الشمال